لقد أصبحنا اليوم جميعنا مدركين لمخاطر الإرهاق. إذ تبين البحوث أنه يؤدي إلى مشاكل متعلقة بالعمل، مثل عدم الرضا عن الوظيفة، والتغيب عنها، وصنع القرارات غير الفعالة والانقلاب، بالإضافة إلى مشاكل صحية كالاكتئاب وأمراض القلب وحتى الوفاة. كما كشفت هذه البحوث بعضاً من الأسباب الشائعة للإرهاق، كافتقاد الاستقلالية والانسجام والدافع والشغف.
ولكن، بما أنّ أغلبية هذه البحوث أجريت على موظفين في مؤسسات كبيرة، يبقى ما نعرفه عن الإرهاق بالنسبة للأنواع الأخرى من الموظفين أقلّ. فأردنا أن ندرس مجموعة تبدو أكثر عرضة للإرهاق، وهي رواد الأعمال.
تشير بعض الأدلة إلى أنّ رواد الأعمال أكثر عرضة للإرهاق بسبب شغفهم المفرط بالعمل وكونهم أكثر انعزالاً اجتماعياً، وامتلاكهم شبكات أمان محدودة وعملهم ضمن درجة عالية من عدم اليقين. وذلك يؤدي إلى عواقب كبيرة على النمو الاقتصادي، إذ يعود جزء كبير من تكاليف الإرهاق السنوية في الولايات المتحدة، والتي تبلغ 300 مليار دولار، إلى فشل شركات المشاريع الريادية وإفلاسها.
ولذلك أجرينا بحثاً لمعرفة العوامل التي تقود إلى إرهاق أكبر بين رواد الأعمال، وبحثنا تحديداً في ما إذا كانت عوامل الشغف بالوظيفة وملاءمتها والإيمان بالقضاء والقدر (أي الإيمان بأن نجاح مهنة العمل في تنظيم المشاريع أمر مقدّر) تزيد احتمال معاناة رواد الأعمال من الإرهاق أم تقلله، واستنتجنا أنّ هذه العوامل تؤثر على نتائج هامة لديهم كالتوتر وأداء المشاريع.
أجرينا استبياناً على 326 عضواً في شبكة الأعمال الدولية العالمية (بي إن آي) (BNI) من جنوب غرب الولايات المتحدة. وهذه المنظمة هي أكبر منظمة لتواصل رواد الأعمال في العالم مع ما يزيد عن 2,800 فرع في 50 دولة، ويلتقي أعضاؤها أسبوعياً لبناء العلاقات وتبادل الإحالات والموارد الأخرى. وضمن عينتنا، كان 59.6% من المشاركين ذكوراً ومتوسط أعمارهم نحو 47.4 عاماً. وتنوعت مجالات أعمال هؤلاء الأشخاص بين الخدمات والشؤون المالية إلى التصنيع والتجارة. وعمل معظم المشاركين، أي 95.6% منهم، في شركات صغيرة مع 250 موظفاً كحد أقصى، وبلغ متوسط فترة العمل 8.59 عاماً. ولا توضح بياناتنا ما إن كان هؤلاء الرواد مالكين أو مؤسسين لشركاتهم.
طرح الاستبيان عدة أسئلة لقياس شغف رائد العمل بوظيفته وملاءمتها له وإيمانه بالقضاء والقدر في العمل وميوله للمعاناة من الإرهاق. وعرّفنا ملاءمة الوظيفة على أنها مدى توافقها مع ما يعتبرها الشخص وظيفة مثالية. وعرّفنا الشغف بالوظيفة على أنه امتلاك ميل قوي تجاه العمل الذي يحبه ويعتبره هاماً. وأردنا قياس كل من شغف الانسجام، الذي يعني وجود دافع للعمل بسبب تحقيقه السعادة للشخص وهو جزء مهم من شخصيته، وشغف الهاجس الذي يعني أهمية الوظيفة لشخص ما بسبب المركز والمال أو أية أرباح أخرى تحققها له.
أما أسئلتنا عن المعتقدات بشأن العمل فقد كانت مصممة لقياس نظرة الشخص لكيفية تطور مسيرته المهنية مع مرور الوقت. وانقسم المشاركون إلى فئتين، منهم من لديهم عقلية مرنة ويعتقدون أنه يمكن تحسين المسيرة المهنية لتنظيم المشاريع مع الوقت، ومنهم من لديه عقلية ثابتة (الإيمان بالقضاء والقدر) ويعتقدون أنّ خطوات المسيرة المهنية إما صحيحة أو خاطئة، وأنّ النجاح فيها إما أن يكون مقدراً أو لا. ولقياس الإرهاق طرحنا على المشاركين أسئلة مثل ما إن شعروا بالتعب عند قضاء يوم آخر في العمل، وإن شعروا بالشك في أهمية عملهم، وإن شعروا بالابتهاج عند نجاحهم في إنجاز أمر ما في العمل. وبنيت جميع أسئلة استبياننا على مقاييس معتمدة.
أظهرت نتائجنا تنوعاً في شغف رواد الأعمال وإحساسهم بملاءمة الوظيفة لهم واحتمالات معاناتهم من الإرهاق على الرغم من امتلاكهم عموماً استقلالية لتصميم وظائفهم. قال رواد الأعمال في العينة التي أجرينا عليها بحثنا أنهم عانوا من الإرهاق بمستويات مختلفة، وكان إرهاق البعض أكبر من الآخرين، حيث كان 25% منهم يشعر بإرهاق متوسط، بينما شعر 3% بإرهاق شديد. ووجدنا أنّ أغلبية رواد الأعمال قالوا أنهم يتمتعون بمستوى عال من ملاءمة وظائفهم (4.26 على مقياس من 5 نقاط)، وسجلوا نقاطاً مرتفعة من شغف الانسجام (3.90) ونقاطاً متوسطة من شغف الهاجس (2.58) والإيمان بالقضاء والقدر (2.79).
وجدنا أنّ أصحاب النقاط المرتفعة من شغف الهاجس كانوا أشد ميلاً للإصابة بالإرهاق من الذين سجلوا نقاطاً مرتفعة من شغف الانسجام. وقال الرواد أصحاب شغف الهاجس أنهم يشعرون أنّ العمل يستنزفهم عاطفياً، وأنّ العمل طوال اليوم يحتاج إلى جهد كبير. وأشاروا إلى الشعور بالاستياء من عملهم وحتى أنه كان يقودهم إلى الانهيار. وبالنسبة للبعض، ولّد إرهاقهم حالة مستمرة من القلق والتوتر. كما وجدنا أيضاً أنّ أصحاب العقلية الثابتة من الرواد ذوي شغف الهاجس كانوا أكثر ميلاً للإصابة بالإرهاق.
- الجانب المظلم من الشغف
لنلق نظرة أعمق إلى الصلة بين الشغف والإرهاق. قال الرواد أصحاب شغف الانسجام أنهم يتمتعون بمستويات عالية من التركيز والانتباه والاستيعاب أثناء عملهم. وعلى الرغم من قولهم أنهم كانوا مأخوذين تماماً بعملهم، إلا أنهم كانوا يسمحون لأنفسهم بأخذ استراحات منه وتمتعوا بمرونة أكبر. بالإضافة إلى أنهم شعروا بأنّ مسيرتهم المهنية في تنظيم المشاريع سمحت لهم باختبار مجموعة تجارب لا تُنسى وبالتفكير بالميزات التي يحبونها في أنفسهم. وإجمالاً، كان هؤلاء الرواد ذوي شغف الانسجام قادرين على إيجاد توازن بين وظائفهم والنشاطات الأخرى في حياتهم من دون تضاربها ومن دون الشعور بالذنب أو بآثار سلبية عند الانفصال عن العمل. وبالتالي وجدنا أنّ فرص هؤلاء الرواد في المعاناة من الإرهاق أقلّ بكثير.
وفي الجهة المقابلة، اعتبر الرواد ذوي شغف الهاجس مسيراتهم المهنية هامة بسبب ضغط معين أو نتائج معينة، حيث كانوا قلقين بشأن القبول الاجتماعي والمركز والمال والنتائج الأخرى المرتبطة بكونهم رواد أعمال. وسجلوا نقاطاً مرتفعة في ملاءمة الوظيفة (4.5) ولكن في الوقت ذاته كانوا يشتكون من صعوبة في الانتباه أثناء العمل، إذ كانوا مشوشين غالباً بالتفكير بشأن الأدوار والمسؤوليات التي كانوا يهملونها بسبب شغف الهاجس لديهم، كالعائلة والحفاظ على صحتهم. كما قالوا أنهم لا يستطيعون العيش من دون العمل وأنهم شعروا بحاجة ملحّة للعمل في شركاتهم 24 ساعة كل أيام الأسبوع. بالإضافة إلى أنهم شعروا بأنهم معتمدون عاطفياً على عملهم ويصعب عليهم تخيل الحياة دونه، وأنهم شعروا بأنّ أمزجتهم معتمدة على قدرتهم على العمل.
- أهمية العقلية المرنة
كان واضحاً أيضاً أنّ العقلية الثابتة غيرت العلاقة بين مدى ملائمة الوظيفة والإرهاق. وهذا يعني أنّ رواد الأعمال أصحاب العقليات الثابتة اعتبروا مشاعر ملاءمة الوظيفة لديهم قاسية لدرجة التأثير على الشغف، ما أدى بالتالي إلى الإرهاق.
ولنذكر الآن مثالين من بياناتنا لنرى كيف يمكن أن يبدو ذلك عملياً. سجل رائد أعمال، ولندعُه بسام، مستوى عال من ملاءمة الوظيفة والعقلية الثابتة. أصبح بسام شديد الاستغراق في وظيفته إذ أنها أصبحت محور حياته بأكملها، وهو يعتقد بأنه لن يحظى بفرصة أخرى ليكون في الوظيفة المثالية. وهذا ما أدخل بسام في نمط حياته الحالي كرائد أعمال وجعله مهووساً بأعماله ليؤدي به في نهاية المطاف إلى الإرهاق.
لنقارن بسام برائدة أعمال أخرى، ولنسمها سارة، التي سجلت مستوى عال من ملاءمة الوظيفة والعقلية المرنة. لم تعلّق سارة أهمية كبيرة على ملاءمة الوظيفة لأنها تعتقد أنّ هناك أكثر من عمل مناسب تماماً لها. لذلك، ومع أنها كانت تحب كونها رائدة أعمال بحق، لم تعتبر أنّ هذا العمل هو المكان الوحيد المناسب لها. وهذا ما جعل سارة أكثر مرونة بكثير من ناحية نظرتها لعملها وهذا ما أدى إلى استمتاعها به بحق، وبالتالي كانت فرص إصابتها بالإرهاق قليلة.
والخلاصة، أظهرت نتائجنا أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين ملاءمة الوظيفة والشغف والعقلية والإرهاق. وسيساعد فهم أنّ الشغف سيف ذو حدين رواد الأعمال في مراقبة دوافعهم وعادات عملهم ليتمكنوا من تجنب ضرر الإرهاق على أعمالهم. وبالمثل، يمكن أن يساعدك تعلم تبني التفكير المرن بشأن وظيفتك في تفادي الإرهاق.
المصدر: Harvard Business Review