تخيل أنك صاحب مشروع ريادي وتقف عند مفترق طرق من الخيارات الصعبة. فقد عملت بكد من أجل تطوير منصة جديدة وتشعر بأن الوقت حان لتطرحها في السوق. ولكن المستثمر المغامر (أو ما يعرف بالمستثمر الجريء) في مجلس الإدارة يقول إن منتجك يحتاج إلى ثلاثة أشهر إضافية على الأقل من التطوير، وأنه سيوصي باستثمار المزيد من المال فيه فقط في حال وضعت استراتيجية واضحة حول كيفية طرحه في السوق وعرضت خطة لتطبيقها. فهل يتعين عليك أن تأخذ بنصيحته؟ في غياب بيانات مستقاة من تجارب واقعية توضح المسار الذي اتبعته مشاريع مماثلة لمشروعك، يستحيل أن تعرف أي مسار عملي سيكون الأمثل لشركتك الناشئة.
في كتابه "الشركة الناشئة الرشيقة" (The Lean (Startup، المستند إلى خبرته في إنشاء شركة برمجيات، يقول إريك رايس للقراء إن إشراك العملاء في تصميم المنتجات هو طريق أفضل للنجاح من كتابة خطة عمل. وهذا يكمل أطروحة اقترحها الباحثان ستيف بلانك وبوب دورف في "دليل مالك الشركة الناشئة" (The Startup Owner’s Manual): وهو أن المهمة الرئيسية لكل شركة ناشئة هي البحث عن فرصة يمكن توسيعها – وهي عملية تعلم تجريبية بالكامل لا يمكن تضمينها في استراتيجية واضحة جيدة التخطيط معدة مسبقاً.
وينصح كلا الكتابين رواد الأعمال بأن يطوروا نسخة من المنتج "قابلة للتطبيق في الحد الأدنى" والعمل على الحصول على ملاحظات العملاء في وقت مبكر.
يجادل البروفيسور جوشوا غانز من جامعة تورنتو، وإرين سكوت وسكوت ستيرن من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، أنه سيكون من الخطأ اتباع نصيحة ريس وبلانك ودورف لأن غياب الخطة أو إطار العمل الاستراتيجي يؤدي إلى إلى اتخاذ قرارات غير سليمة.
أنا أختلف معهم. ولتوضيح السبب، سأبدأ بالشرح والتذكير كيف بدأت دراسة ريادة الأعمال.
قطاع ريادة الأعمال
حتى ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن أحد يدرِّس حقاً ريادة الأعمال، ولم يكن لدى الأكاديميين في كليات إدارة الأعمال اهتمام ظاهر بفهم كيف تأسيس الشركات عملياً. لقد ركزوا على إعداد الطلاب لتكوين مسار مهني في قطاعات عملاقة مثل المصارف والمصانع والنقل وشركات المنتجات الاستهلاكية. ثم جاء بيل غيتس وستيف جوبز، وحققا تلك النجاحات، فازداد اهتمام طلاب الماجستير في كليات إدارة الأعمال من الطامحين بمحاكاة منهج غيتس وجوبز لدراسة تخصص جديد أطلق عليه "ريادة الأعمال"، وبدأ الناس في تلك الفترة يستخدمون كلمة "رائد الأعمال".
وتبلور بالتالي المنهج المتعارف عليه في ريادة الأعمال والذي كان يدور حول توجهات الاستراتيجية والتمويل (كان رأس المال المغامر أو الجريء في تلك الفترة مازال حديثاً)، وكانت الريادة في تلك الفترة تدور حول فكرة مدرسية محددة جديدة، ترتكز على كتابة خطة العمل لبدء مشروع جديد مُتخيَّل. وسرعان ما ظهرت صيغ معدلة ومتطورة مع دخول عناصر مشتركة تعكس المعايير والتجارب المطبقة من قبل المستثمرين المحتملين. وهكذا وجدت الجامعات مجالاً جديداً للتعليم يحظى بإقبال ويسمح بتنظيم مسابقات بين الكليات ذات التوجه نفسه. واليوم، تنظم جامعة رايس الأميركية (Rice University) مسابقة سنوية لخطط العمل المتفوقة تحت مسمى (Super Bowl)، تصل جوائزها إلى أكثر من 3 ملايين دولار.
لقد كان هذا المنهج التدريسي لريادة الأعمال جذاباً، فقد كان الجميع بحاجة لتعلم أصول خطط العمل والتقليل من مخاطر الأحداث المستقبلية في أي مشروع. وهي حاجة تزداد أهميتها مع زيادة تعقيد المشروع والتكلفة المحتملة للفشل. إن تطوير إستراتيجية وخطة عمل يجعل بدء مشروع تجاري يبدو أمراً يمكن التنبؤ بمستقبله بصورة أفضل وأدق.
ولا جدال بالطبع بأن مراحل المشروع الناجح في ريادة الأعمال أو تحدياته تختلف من مشروع إلى آخر، لا سيما إذا علمنا أن كثيراً من المناهج التدريسية والتدريبية السائدة عن المشاريع الناشئة، معتمدة بدرجة كبيرة على شركات البرمجيات والتكنولوجيا التي ألهمت كل حراك الشركات الناشئة، رغم أنها لا تمثل أكثر من 3٪ من جميع الشركات الناشئة. على سبيل المثال، يتطلب فتح متجر بيع بالتجزئة لبيع ألواح التزلج (سكيتبوردس) توفر المتجر (أو بنية رقمية للبيع عبر الانترنت)، والتجهيزات، والمخزون، وموظفي المبيعات، والإعلانات. يبدو واضحا أن مثل هذا المشروع يتطلب استراتيجية وخطة. وليس بالبساطة التي قد يتطلبها مشروع تكنولوجي رقمي آخر.
مشكلة الخطط
هناك افتراض خاطئ رغم أنه سائد في ريادة الأعمال ويُدرس في العديد من كليات إدارة الأعمال. ويتمثل ذلك في اعتبار أنه يمكن تطبيق منطق موحد على عملية بدء مشروع تجاري وفقاً لخطوات محددة، وأنه إذا اتُبع فسوف يزيد من احتمال نجاح المشروع الجديد. لكن هذا الافتراض لم يوضع بتاتاً قيد الاختبار بشكل صحيح.
على الرغم من أن مؤرخي قطاع الأعمال تحدثوا بالتفصيل عن السنوات الأولى في عمر عدد من الشركات الكبرى اليوم، إلا أن الأكاديميين في مجال إدارة الأعمال لم يجمعوا بتاتاً "بيانات طولية" أي دراسة تغطي عينات مختلفة من مراحل زمنية متباينة حول كيفية ظهور الشركات الجديدة، أو فصلوا الخصائص المشتركة للشركات الناشئة، أو وصفوا سلوك ريادة المشاريع الذي يمكن تكراره. ولم يبدأ خبراء الاقتصاد ببناء مثل هذه البيانات سوى في الفترة الأخيرة.
بدلاً من ذلك، يعتمد الباحثون والأكاديميون في مجال ريادة الأعمال على دراسات الحالة عن الشركات الناشئة الناجحة. لكن هذه القصص غالبًا ما تثير الشبهة إلى حد كبير.
لا يحتفظ رواد الأعمال عادةً بمذكرات يومية ووثائق منظمة تتبع ما جرى في الوقت الفعلي، وهذا يعني أن علينا الاعتماد على قصص ذات أثر رجعي تكون ممتلئة بالروايات الإيجابية وغير ذلك من المعلومات المتحيزة. فضلاً عن ذلك، تخلف الشركات الناشئة الفاشلة القليل من السجلات والبيانات خلافاً لما يمكن أن يقال.
وبالتالي لا يمكن أن نقيِّم بأي طريقة مجرَّبة وموثوقة ما يشير إليه بعض الخبراء تحت مُسمى "علم الشركات الناشئة".
تقترح الأدلة التي بحوزتنا أن تعليم إدارة الأعمال التجارية وفق مناهج ثابتة هو أمر مشكوك فيه ولا يمكن أن يكون دقيقاً. ومن شبه المؤكد أنه لم تبدأ أي من الشركات التي درسها طلبة الماجستير تجاربها بخطة عمل، بما في ذلك ألكوا (Alcoa) وديزني وجنرال إلكتريك وآي بي أم وبيبسي وبي اند جي (P & G) ومايسيز (Macy’s) ويونايتد إيرلاينز ووولمارت. ولم تفعل ذلك بالمثل الشركات الرائدة الأحدث مثل آبل وسيسكو وفيسبوك وقوقل ونايكي وأوبر وياهو – والتي يتطلع إليها رواد الأعمال اليوم. تشير الأبحاث التي أجراها أنتوني تجان وجوليان لانغ وزملاؤهما إلى أن الخطط لا تُحدث فرقاً إحصائياً في نجاح الشركات الناشئة. قد يفسر ذلك سبب عدم بدء سوى عدد قليل من الفائزين في مسابقات خطط الأعمال في الواقع بتأسيس شركات. وقد قال لي ذات مرة طالب فاز بمبلغ 125,000 دولار في ثلاث مسابقات، إلى جانب منحة دراسية لنيل ماجستير في إدارة الأعمال؛ إن العمل الوحيد الذي من المحتمل أن يبدأه إذا أراد التفكير بتأسيس شركة، هو كتابة خطط الأعمال. وهذا يعني أنه ليس متأكداً من احتمال قيامه بتأسيس شركة.
كما أنني لست مقتنعاً بالحجة القائلة بأن المشروع "الحقيقي" (على عكس المشروع الرقمي) يمكن أن يقلل بشكل كبير من المخاطر بمجرد حيازة خطة عمل. وبحسب غانس وسكوت وستيرن فإن الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا إيلون ماسك حقق نجاحاً أكبر من شركة بتر بليس التي أسسها شاي أغاسي نظراً لأن الأولى نالت حظاً أكبر من التخطيط "التداولي والتدريجي". لكن مشروع تسلا كان بالفعل مشروعاً نائشئاً مُكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر، تطلب مبالغ هائلة من رأس المال. لم يكن من الممكن اختبار المنتج بصورة تدريجية. وبصرف النظر عن الاستثمار الضخم في الهندسة، كان على ماسك بناء سلسلة توريد معقدة، ومنشأة تجميع، وشبكة وكلاء بيع، وشراكة بين القطاعين العام والخاص لضمان وجود محطات الشحن الضرورية. وللقيام بكل ذلك، احتاج إلى خطة عمل. لكن وجود الخطة بحذ ذاته ما كان ليحدث فرقاً جوهرياً في الرهان الأساسي. ربما جعل انطلاقته أكثر سلاسة ولكنه ما كان ليزيد فرصه في تحقيق النجاح.
خطة غياب الخطة
لقد حلت مناهج جديدة مكان خطة العمل التقليدية المألوفة لطلبة تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ولكن هذه البدائل الجديدة لا تمثل، مثلما يبدو لي، تقدماً كبيراً. إن جهود آلان غليسون وستيف بلانك لإعادة تسمية خطط العمل "نماذج الأعمال" تلحظ اختلافاً بسيطاً جداً بينهما. ففي كتابهما "جيل نموذج الأعمال" (Business Model Generation)، يقترح ألكسندر أوسترولدر وإيف بينيور عملية يقوم فيها مؤسِّسون محتملون بتصميم لوحة فنية تجريدية لمشروعهم المتخيَّل. وهم يشبهون العملية بتصميم لوحة رسم ناجحة تتضمن مجموعة من المكونات المحددة والضرورية بصورة متوازنة – وهي في هذه الحالة، البنية التحتية، واحتياجات العملاء، والأسواق، والتمويل. في إطار آخر، يصف بيل أوليت في كتابه "ريادة المشاريع المنضبطة" مساراً يتكون من 24 خطوة منفصلة ستزيد إذا اتبعت بعناية، من احتمال تحقيق بداية ناجحة.
في النهاية، لا تفلت أي من هذه الجهود من المنهجية التي تتطلب اتباع خطوات منظمة حيث يتطلب الأمر تنفيذ خطوة أو أكثر قبل غيرها في عملية التخطيط.
إن البوصلة الاستراتيجية في ريادة المشاريع التي يدافع عنها غانس وسكوت وستيرن تدعو إلى حد ما إلى الأمر نفسه، حيث يجادل المؤلفان بأن الشركات حديثة النشأة ستستفيد من التقييم المنهجي لأربع استراتيجيات متنافسة لطرح المنتج أو الخدمة في السوق، وهي: حماية الملكية الفكرية للمشروع الحديث، وتعطيل قدرة المنافسين، والعمل ضمن سلسلة القيمة الموجودة، أو إنشاء سلسلة قيمة جديدة تماماً. ومن المؤسف طبعاً، أن النصائح التي يقدمها الأكاديميون لا تتعدى هذه النقاط الأربع رغم مرور 30 عاماً على انطلاق "ثورة ريادة الأعمال" كما يمكن أن نعتبرها.
التعلم عبر الممارسة
في حال عدم توافر بيانات تسمح بإسداء نصيحة موجبة، لا يملك صاحب المشروع حقاً أي بديل سوى التعلم عن طريق الممارسة والتطبيق – وهي ممارسة مستمدة من فلسفة علم الظواهر وهي مدرسة فكرية تعد بين مؤيديها هيغل وهايدغر ودريدا. هذا التيار الفلسفي هو رد فعل على الافتراضات الديكارتية التي تقوم على التحليل الاستراتيجي التقليدي – والطريقة الخطية التي نفكر بها في ما يتعلق بمشاريع الأعمال.
وفقاً لفلسفة علم الظواهر، يتعرف الناس على العالم ويتعلمون من خلال تجاربهم فيه. وبدلاً من تحليل البيانات السابقة، ينشؤون بيانات جديدة خاصة بهم، وبناء على ما يكتشفونه ينخرطون في تجارب جديدة، ويبنون فهماً لعالمهم في أثناء مضيهم قدماً. إنها منهجية اعتمدتها إحدى الشركات الأكثر نجاحاً في العالم، وهي شركة آبل التي تستخدم عملية التعلم عن طريق الممارسة تُعرف باسم التعلم القائم على التحدي في مشروع "مدرسة الغد" (Classrooms of Tomorrow). لقد كانت هذه الصيغة التي تعتمد على التجربة والخطأ فعالة بشكل خاص في بدء مشاريع تجارية تستند إلى التطبيقات الجوالة.
وهي كذلك الطريقة العملية الوحيدة التي يمكن من خلالها لصاحب المشروع أن يمضي قدماً. إذ أن توقع رد فعل المستهلك – وهو المحدد الرئيسي للنجاح – يكاد يكون مستحيلاً من دون التجربة والخطأ، لأن رأي الخبراء بشأن ما هو مرجح أن يلقى رواجاً في السوق ينتهي في كثير من الحالات إلى الفشل. ولذلك فإن التجربة هي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من وضع علامة ( 1 من 7) كمقياس لنجاح الاستثمارات في صناديق رأس المال المغامر.
عندما كُشف النقاب عن دراجة سيغواي الكهربائية الصغيرة (Segway) على شاشات التلفزيون الأميركي في عام 2001، أشاد بها الخبراء على أنها ثورة في وسائل النقل الشخصية ستغير وجه المدن من خلال، حيث توقع الناس أنهم لن يعودوا لمعاناة البحث عن مرائب وقوف السيارات مع وجود هذه الدراجة، وسرعان ما أغدق المستثمرون المغامرون الفكرة بالمال. واليوم، لا يُستخدم الابتكار الذي قيل إنه سيكون "أكبر من الإنترنت" في الغالب سوى من قبل حراس الأمن في مراكز التسوق.
في نهاية المطاف، يعرف رواد الأعمال أن إطلاق مشروع تجاري أمر محفوف بالمخاطر التي يمكنهم هم وحدهم التعامل معها. وتكمن مهمتهم في اتخاذ قرار بعد الآخر في ظروف غير متوقعة. ومع تكشف الأحداث (التي تحددها في الغالب قرارات سابقة) فهي تحمل معها الفرص أو المخاطر التي لا يمكن تقييمها قبل اتخاذ خيار.
إن إطلاق وإدارة مشروع جديد لا يمكن على الإطلاق اختزاله إلى إطار عمل استراتيجي، ناهيك عن مضيه بسلاسة وفقا لخطة معدة مسبقاً. وقد قال لي تيد فارنسورث وهو رجل أعمال في حوزته سلسلة من المشاريع ويشغل الآن منصب رئيس مجلس إدارة شركة هيليوس وماثيسون (Helios and Matheson) التي تملك خدمة الاشتراك المخصّصة للعروض السينمائية (MoviePas): "في أي شركة جديدة، لا يوجد سوى أمر واحد يجب القيام به، وهو ابتكر منتجاً جديداً واطرحه في السوق. عندها يمكنك الإجابة على السؤالين المهمين فقط: هل هناك عملاء؟ كم سيدفعون؟ بصفتي رجل أعمال، أعيد باستمرار تعلُّم الإجابات على هذين السؤالين". وتذكر المعضلة التي واجهتك كرائد أعمال مفترض في بداية هذا المقال.
والخلاصة التي يمكن أن نقدمها هي في هذا المثال؛ في عام 1998، استطاع مايكل ليفين الذي حوَّل شركة "تايتان ستيل" (Titan Steel) إلى شركة عالمية رائدة في مجال بيع وشراء المعادن، أن يطلق أيضاً منصة تداول رقمية بين الشركات B2B. قبل الإطلاق، اضطره كبار المستثمرين في المشروع إلى كتابة خطة عمل لمشروعه الحديث. ولكن في مرحلة معينة، بدأ المشروع يواجه صعوبات، وقرر ليفين أنه يحتاج إلى الابتعاد عن الخطة، فواجه ممانعة شديدة جعلته يقرر شراء حصص المستثمرين لإنقاذ شركته. استنتج من تجربته تلك بتهكم إن "إنجاح شركة ناجحة يتطلب أن تفهم العملاء تماماً، وليس أن تحكم قبضتك على خطة العمل".
المصدر: Harvard Business Review