لطالما تردد على مسامعنا بأنّ "الشغف" هو العنصر الأساسي في نجاح ريادة الأعمال. فالشغف هو الذي يحفّز الناس لإطلاق مشروع جديد. وهو الذي يساعدهم أيضاً على المثابرة عندما تضيق بهم الأحوال. وهو النار الكامنة تحت الرماد التي تجعل روّاد الأعمال يسعون وراء أحلامهم، والتي تجعل المستحيل ممكناً. أو كما قالت آنيتا روديك، مؤسسة شركة "ذي بودي شوب" (The Body Shop) مقولتها الشهيرة في حديثها عن الحفاظ على الشغف: "لكي يحالفك النجاح، يجب عليك أن تؤمن بشيء ما بقدر كبير من الشغف بحيث يتحوّل إلى واقع".
خلال السنوات القليلة الماضية، سعى بحث علمي أيضاً إلى فهم الشغف الموجود لدى روّاد الأعمال وآلية العمل الفعلية لهذا الشغف. فالعنصر الأهم بالنسبة للشركات الناشئة هو امتلاكها للشغف بالأنشطة التأسيسية. وروّاد الأعمال الشغوفون هم من يشعرون بسعادة غامرة عندما يُعرِّفونَ هويتهم بوصفهم مؤسسين لشركات ريادية ويعتبرون كونهم مؤسسين كجزء هام من شخصيتهم. وهؤلاء هم الأشخاص الذين سيعرّف الواحد منهم عن نفسه خلال الحفلات كما يلي: "مرحباً، أنا مؤسس الشركة الفلانية" وهم يرون الفرص الناشئة في كل مكان ينظرون إليه. وانسجاماً مع النظرة الشعبية إلى الشغف، أظهرت دراسات بأن شغف روّاد الأعمال يعزّز إبداعهم ومثابرتهم فعلياً.
كيفية الحفاظ على الشغف
لكنّ المفاجئ في الأمر هو أنّ أبحاثنا تُظهر بأنّ حالة الشغف الموجودة في أوساط روّاد الأعمال تميل إلى التلاشي مع مرور الوقت. فقد تابعنا مجموعة مؤلّفة من أكثر من 100 رائد أعمال في المراحل التأسيسية لشركاتهم خلال فترة 10 أشهر. ورغم أنّ هذه هي المرحلة التي تتوقع أن ترى فيها حالة الشغف، إلا أننا وجدنا بأنّ العكس هو الصحيح: فالشعور الأولي بالإثارة لدى روّاد الأعمال بخصوص هويتهم كروّاد أعمال تراجع خلال تلك الفترة. ولكن لحسن الحظ، هناك بعض الأخبار السارّة أيضاً. فقد اكتشفنا استراتيجيتين سلوكيتين يمكن أن تمنعا روّاد الأعمال من خسارة حالة الشغف لديهم.
لا تلتزم بالخطّة الموضوعة سلفاً
يلجأ العديد من روّاد الأعمال منذ البداية إلى وضع خطة تجارية تبيّن بوضوح ما الذي ينوون فعله. وبما أنّ هذه الخطط تحاول التنبؤ بالمستقبل، فهي بحكم تعريفها محاطة بدرجة عالية من عدم اليقين والغموض. هل سيكون الزبائن مهتمّين بشراء المُنتَج أو الخدمة؟ هل يلبّي المُنتَج احتياجاتهم؟ ما هي الأشياء التي سيكونون مستعدين لدفع ثمنها؟ مع من يجب على المؤسسين أن يدخلوا في شراكة؟ يتعامل بعض مؤسسي الشركات الناشئة مع حالة عدم اليقين والغموض هذه من خلال الالتزام الدقيق بالخطة الموضوعة مسبقاً. وقد يقضون سنتين في تطوير منتجاتهم، لضمان أن يكون جوهرة تكنولوجية حقيقية، ليعودوا ويكتشفوا لاحقاً بأن الزبائن الذين تخيّلوهم ليسوا متحمّسين تماماً لذلك المُنتَج.
ولكن ثمّة مؤسسون آخرون يتمتّعون بقدر أكبر من المرونة ويطبّقون استراتيجية تقوم على مبدأ التجربة والخطأ (trial-and-error strategy)، حيث يواصلون اختبار أفكارهم وتكييفها حتى تتكوّن لديهم آراء جديدة. فقد كانت إحدى الشركات التي غطّتها دراستنا، على سبيل المثال، قد طوّرت طائرات صغيرة بدون طيّار لتقديم خدمة رسم الخرائط من الجو لصالح شركات التعدين والمناجم. وبعد اختبار أوّلي، مع شركة تعدين كبيرة، اكتشفت الشركة بأن الأخيرة ورغم رضاها الكبير عن النتائج، إلا أنها لم تكن مهتمة بدفع المال مقابل الحصول على هذه الخدمات. هذا الأمر أقعد المؤسسين، لأنهم كانوا يؤمنون بأن ذلك هو مستقبل شركتهم الناشئة.
وعوضاً عن السير في هذا الطريق، بدؤوا باستكشاف الجهات الأخرى التي قد تكون مهتمّة بالحصول على خدماتهم. وفي نهاية المطاف، عثروا على سوق جديدة شكّلت نجاحاً كبيراً لهم في النهاية؛ ألا وهي سوق مسّاحي الأراضي، الأمر الذي أعاد إليهم الحماسة الأولية التي كانوا يشعرون بها بوصفهم روّاد أعمال. وعليه، إذا كان روّاد الأعمال المؤسسون قادرين على تغيير أفكارهم بمرونة وإعادة تعريفها، فسيكون بوسعهم إحراز تقدّم هام وبناء الثقة. وعوضاً عن الشعور بأنّ العالم الخارجي يسيء فهمهم، سيتكوّن لديهم إحساس بالسيطرة على الأحداث الجارية وأثناء وقوعها. وقد تبيّن بأنّ هذه الاستراتيجية تعطي تأثيراً معاكساً لحالة التراجع في الإحساس بالشغف لدى المؤسسين.
استطلع آراء الناس
"كيف ترون أدائي؟" في ثمانينيات القرن العشرين، اشتهر عمدة مدينة نيويورك إد كوخ بالسير في الشوارع وطرح هذا السؤال على الناس على الدوام. وقد اجتذبت هذه الاستراتيجية غير التقليدية على الإطلاق في استطلاع آراء الناس الكثير من الاهتمام لأننا ندرك جميعاً أهمية الحصول على آراء الناس، ومدى صعوبة الحصول على هذه الآراء.
وخلافاً للموظفين، فإنّ المؤسسين ليس لديهم من يشرف على عملهم ويقوّم أداءهم. لكن الشيء الذي يستطيعون فعله، وعليهم فعله، مشابه تماماً لما فعله كوخ من حيث الخروج إلى الشارع واستطلاع آراء الآخرين: اطلب من زملائك روّاد الأعمال، والمستثمرين، والمستشارين، والخبراء في مجال عملك تقديم آرائهم. ولكن ينبغي عليك توخّي الحذر. فالناس ميّالون بطبيعة الحال غالباً إلى طلب الآراء التي سوف تؤكّد تصوراتهم الذاتية المسبقة. صحيح أن ذلك قد يكون مفيداً في تعزيز تقدير الشخص المعني لذاته نظراً لحصوله على آراء إيجابية، إلا أنّ من المهم طلب الآراء من شبكة متنوعة من الناس الذين يتحدَّون معتقداتك الراسخة بقوة.
عادة ما تُسهم عملية طلب الآراء هذه في تحفيز الناس، حيث أنّ ذلك يُشعرُهم بأنّهم يتعلّمون شيئاً ما. كما أنّ ذلك يعطيهم إحساساً بالسيطرة. ويمكن للآراء المقدّمة أن تساعد المؤسسين في اختبار الأفكار وتنقيحها، مما يسهّل عملية تحقيق الأهداف، وهذا بدوره يعطي الشخص المعني الإحساس بالإنجاز. وتتّضح فائدة هذا الأمر خصوصاً عندما يواجه هؤلاء المؤسسون حالات الغموض التي تظهر حتماً خلال رحلة بناء الشركة الناشئة وهي رحلة لا تخلو من التحدّيات بطبيعة الحال.
إن الانتقال من الفكرة إلى شركة مكتملة الأركان يتطلّب ضمناً اتخاذ قرارات تتزايد صعوبتها بخصوص الزمن والطاقة المطلوبين لأداء مختلف الأدوار التي يجب على الشخص المؤسس أداؤها (فهو الشخص الرئيسي، والقائد، ومسؤول الارتباط، والناطق الرسمي، والمفاوض، وجامع الأموال، على سبيل المثال لا الحصر). وهذا هو بالضبط جوهر كون المرء رائد أعمال: أي كيف يحدّد المرء أدواره أثناء نمو الشركة وانتقالها نحو مرحلة النضوج. صحيح أنّ هذه المهمّة قد تكون مضنية بالنسبة للكثير من الناس، ويمكن أن تشكّل ضغطاً كبيراً على حالة الشغف المرافقة لإنشاء شركة، إلا أن طلب الآراء من الأشخاص المحيطين بك سوف يحمي هذا الشغف الداخلي.
لكنّ الواقع الصارخ يشير إلى أنّ معظم هذه الشركات الناشئة تفشل. فالأمور ستنحرف عن مسارها، ومن المرّجح أن يخسر روّاد الأعمال بعض الإثارة الأولية مع مرور الوقت. كما أنّ تحلّي المؤسسين بالمرونة في تكييف الآراء مع الظروف المتغيّرة، وإحاطتهم لأنفسهم بأناس موثوقين قادرين على تقديم الآراء هي أمور سوف تساعد في تحمّل الضغوط العاطفية المتقلبة المرتبطة بالعمل على الشركة الناشئة، وفي إبقاء النار متّقدة تحت الرماد بسبب الحفاظ على الشغف.
المصدر: Harvard Business Review